فصل: تفسير الآيات رقم (181- 183)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 175‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تقولوا‏}‏ يعني الذرية ‏{‏إنما أشرك آباؤنا من قبل‏}‏ يعني إنما أخذ المثاق عليهم لئلا يقول المشركون إنما أشرك آباؤنا من قبل ‏{‏وكنا ذرية من بعدهم‏}‏ يعني وكنا أتباعاً لهم فاقتدينا بهم في الشرك ‏{‏أفتهلكنا‏}‏ يعني أفتعذبنا ‏{‏بما فعل المبطلون‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هذا قطع لعذر الكفار فلا يستطيع أحد من الذرية أن يقول يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد والميثاق وكنا نحن الذرية من بعدهم فقلدناهم واقتدينا بهم وكنا في غفلة عن هذا الميثاق فلا ذنب لنا فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك وقد أخذ عليهم جميعاً الميثاق وجاءتهم الرسل وذكروهم به وثبتت الحجة عليهم بذلك يوم القيامة، وأما الذين حملوا معنى الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل وهو مذهب أهل النظر قالوا معناه إن الله نصب هذه الدلائل وأظهرها للعقول لئلا يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لآبائنا لأن نصب أدلة التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء في الشرك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصِّل الآيات‏}‏ يعني ليتدبرها العباد فيرجعون إلى الحق والإيمان ويعرضوا عن الباطل والكفر وهو المراد من قوله ‏{‏ولعلهم يرجعون‏}‏ يعني عن الشرك إلى التوحيد وقيل معناه ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتل عليهم‏}‏ يعني واقرأ على قومك يا محمد ‏{‏نبأ‏}‏ يعني خبر ‏{‏الذي آتيناه آياتنا‏}‏ اختلفا فيه فقال ابن عباس‏:‏ هو بلعم بن باعوراء، وقال مجاهد‏:‏ بلعام بن باعر، وقال ابن مسعود‏:‏ هو بلعم بن أبر، قال عطية قال ابن عباس‏:‏ إنه كان من بني إسرائيل وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الكنعانيين من بلد الجبارين، وقال مقاتل‏:‏ هو من مدينة البلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ومحمد بن إسحاق والسدي وغيرهم من أصحاب الأخبار والسير قالوا‏:‏ إن موسى عليه الصلاة والسلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا‏:‏ إن موسى رجل حديد وأن معه جنوداً كثيرة وأنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردهم عنا‏.‏ فقال‏:‏ ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي‏؟‏ فراجعوه وألحوا عليه فقال‏:‏ حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو حتى يؤامر ربه في المنام فأتى في المنام فقيل له لا تدع عليهم فقال لقومه‏:‏ إني قد آمرت ربي فنهاني أن أدعو عليهم فأهدوا له هدية فقبلها وراجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت ربي فلم يوح إلي بشيء فقالوا له‏:‏ لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك أول مرة فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال لذلك الجبل جبل حسان فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت فنزل عنها وضربها فقامت وركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى قامت فركبها فم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى أزلقها فأذن الله عز وجل لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعام أتدري أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي وهذا ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيل الأتان فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على جبل حسان ومعه قومه جعل يدعو فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعام أتدري ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شي قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لقومه‏:‏ قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق لي إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، ثم قال‏:‏ جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل ليبعنها عليهم ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنه إن زنى رجل منهم بواحدة منهن كُفيتموهم ففعلوا ذلك فلما دخل النساء على العسكر مرت امرأة من الكنعانين اسمها كستى بنت صور على رجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه الصلاة والسلام وقال إني لأظنك أنك تقول هذه حرام عليك فقال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال والله إني لا أطيعك في هذا ثم قام ودخل بها إلى قبته فوقع عليها فأرسل الله عزَّ وجلّ الطاعون على بني إسرائيل في ذلك الوقت‏.‏

وكان فنحاص بن العيزار بن هارون وكان صاحب أمر موسى وكان رجلاً فظاً قد أعطي بسطة من الخلق وقوة في البطش، وكان غائباً حين صنع زمري بن شلون ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إٍرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فطعنهما بحربته فانتظمهما ثم خرج بهما وهو رافعهما إلى السماء وقد أخذ الحربة بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر بن العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن عصاك ورفع الطاعون من بني إسرائيل فحسب من مات منهم في ذلك الطاعون فيما بين أن أصاب ذلك الرجل المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك سبعون ألفاً في ساعة واحدة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل لولد فنحاص من كل ذبيحة يذبحونها الفشة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياه بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته ويعطوهم البكر من كل أموالهم لأنهم كان بكر العيزار وفي بلعام أنزل الله عز وجل ‏{‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا‏}‏ الآية، وقال مقاتل‏:‏ إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال بلعام إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت به الأتان فضربها فقالت‏:‏ لم تضربني وأنا مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع إلى الملك فأخبره بذلك فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم ان لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى ومن معه من بني إسرائيل في التيه بدعاء بلعام عليه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعت في التيه قال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله سبحانه وتعالى منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏آتيناه آياتنا فانسلخ منها‏}‏‏.‏

فإن قلت هذه القصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى عليه السلام دعا على بلعام بأن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان وكيف يجوز لموسى عليه السلام مع علو منصبه في النبوة أن يدعو على إنسان بالكفر بعد الإيمان أو يرضى له بذلك قلت الجواب عنه من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ منع صحة هذه القصة لأنها من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخباره إذا خالف الأصول‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن سبب وقوع بني إسرائيل في التيه هو عبادتهم العجل أو قولهم لموسى عليه السلام اجعل لنا إلهاً فكان ذلك هو سبب وقوعهم في التيه لادعاء بلعام عليهم‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ على تقدير صحة هذه القصة وأن موسى عليه السلام دعا على بلعام أن موسى عليه السلام لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده أن بلعام كفر وارتد عن الإيمان بدعائه على موسى وإيثاره الحياة الدنيا فدعا عليه مقابلة لدعائه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله والمقصود من ذلك تنزيه منصب النبوة عما ينقله أصحاب الأخبار في كتبهم من غير نظر فيه ولا بحث عن معناه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم‏:‏ نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله سبحانه وتعالى مرسل رسولاً فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وشرفه الله بالنبوة حسده وكذبه وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة فقصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل له‏:‏ قتلهم محمد فقال‏:‏ لو كان نبياً ما قتل أقرباءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها‏:‏ بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه فقال للذي عند رأسه‏:‏ أوعى قال وعى قال أزكى قال أبى قالت فسألته عن ذلك فقال‏:‏ خير أريد بي فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق من غشيته قال شعراً‏:‏

كل عيش وإن تطاول دهراً *** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «آمن شعره وكفر قلبه» فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها‏}‏ الآية وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة منها أولاد فقالت له اجعل لي منها دعوة فقال لك منها واحدة كما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فصارت أجمل النساء فلما علمت أنه ليس في نساء بني إسرائيل مثلها رغبت عنه فغضبت فدعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها إلى أبيهم وقالوا ليس لنا على هذا الأمر قرار صارت أمنا كلبا نباحة والناس تعيرنا بذلك فادع الله أن يردها إلى حالها الأول فدعا فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات جميعاً والقولان الأولان أشهر‏.‏ وقال الحسن وابن كيسان‏:‏ نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروه، وقال قتادة‏:‏ هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله وقوله تعالى ‏{‏آتيناه آياتنا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان يعلم اسم الله الأكبر وقال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، وقال السدي‏:‏ كان يعلم اسم الله الأعظم‏.‏ وفي رواية أخرى عن ابن عباس‏:‏ أنه أوتي كتاباً وقيل آتاه الله حجة وأدلة وهي الآيات التي أوتيها ‏{‏فانسلخ منها‏}‏ يعني فخرج من الآيات التي كان الله آتاه إياها كما تنسلخ الحية من جلدها، وقال ابن عباس‏:‏ نزع منه العلم ‏{‏فأتبعه الشيطان‏}‏ يعني لحقه وأدركه وصيره الشيطان تابعاً لنفسه في معصية الله يخالف أمر ربه ويطيع الشيطان وهواه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكان من الغاوين‏}‏ يعني من الهالكين الضالين بما خالف ربه وأطاع هواه وشيطانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لرفعناه بها‏}‏ يعني رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات التي أوتيها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لرفعناه، وقال ابن عباس‏:‏ لرفعناه بعمله بها، وقال مجاهد وعطاء‏:‏ معناه لو شئنا لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات ‏{‏ولكنه أخلد إلى الأرض‏}‏ يعنيك ولكنه سكن إلى الدنيا ومال إليها ورضي بها وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن الأرض عبارة عن المفاوز والقفار وفيها المدن والضياع والمعادن والنبات ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض ‏{‏واتبع هواه‏}‏ يعني أنه أعرض عن التمسك بما أتاه الله من الآيات واتبع الهوى فخسر دنياه واخرته ووقع في هاوية الردى والهلاك وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى وذلك لأن الله عز وجل خص هذا الرجل بآياته وحكمته وعلمه اسمه العظم وجعل دعاءه مستجاباً ثم إنه اتبع هواه وركن إلى الدنيا ورضي بها عوضاً عن الآخرة نزع منه ما كان أعطيه وانسلخ من الدين فخسر الدنيا والآخرة ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع وثبته بالعلم وبصُّره بعيوب نفسه‏.‏ عن كعب بن مالك الأنصاري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسرف لدينه» أخرجه الترمذي ثم ضرب الله عز وجل مثلاً لهذا الرجل الذي أتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال تعالى ‏{‏فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏}‏ يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه من العطش وشدة الحر وعند الإعياء والتعب وهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن أتاه آياته وحكمته فتركها وعدل عنها واتبع هواه وترك آخرته وآثر دنياه بأخس الحيوانات وهو الكلب في أخس أحواله وهو اللهث لأن الكلب في حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها كذلك العالم الذي يتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها في الآخرة لأن التمثيل به على أن يلهث على كل حال إن حملته عليه أو تركته كان لاهثاً وذلك عادة منه وطبيعة وهي مواظبته على اللهث دائماً فكذلك من أتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لحطام الدنيا الخسيسة، ثم إنه مال إليها وطلبها كانت حالته كحال الكلب اللاهث وقيل‏:‏ إن العالم إذا توصل بعلمه إلى طلب الدنيا فإنه يظهر علومه عند أهلها ويدعل لسانه في تقرير تلك العلوم وبيانها وذلك لأجل ما يحصل عنده من حرارة الحرص الشديد وشدة العطش إلى الفوز بمطلوبه من الدينا فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الذي أدعل لسانه من اللهث في غير حاجة ولا ضرورة‏.‏

ومعنى أن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث أي إن شددت عليه وأهجته لهث وإن تركته على حاله لهث لأن اللهث طبيعة أصلية فيه فكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب ‏{‏ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم ا لذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضاً بل هم ضلاّل في كل حال ثم قال سبحانه وتعالى ‏{‏فاقصص القصص‏}‏ وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات الله ‏{‏لعلهم يتفكرون‏}‏ يعني فيتعظون، وقيل‏:‏ هذا المثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وإلى طاعته وهم يعرفونه ويعرفون صدقه كذبوه ولم يقبلوا منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏177- 178‏]‏

‏{‏سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يعني بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ‏{‏وأنفسهم كانوا يظلمون‏}‏ يعني بتكذيبهم بآياتنا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏من يهد الله فهو المهتدي‏}‏ يعني من يرشده الله إلى دينه فهو المهتدي، وقيل‏:‏ معناه من يتول الله هدايته وإرشاده فهو المهتدي ‏{‏ومن يضلل‏}‏ يعني ومن يتول الضلالة ‏{‏فأولئك هم الخاسرون‏}‏ يعني في الآخرة وفي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي المضل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 180‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ذرأنا‏}‏ يعني خلقنا ‏{‏لجهنم كثيراً من الجن والإنس‏}‏ أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها‏.‏ واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قال‏:‏ دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت‏:‏ يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم أخرجه مسلم‏.‏ قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم‏:‏ أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه لي مكلفاً وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا‏.‏

وأجاب العلماء عنه بأنه لعله صلى الله عليه وسلم نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة «إني لأراه مؤمناً فقال‏:‏» أو مسلماً «الحديث، ويحتمل أن صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون‏:‏ هم في النار تبعاً لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا‏:‏ يا رسول الله وأولاد المشركين‏؟‏ قال‏:‏» وأولاد المشركين «رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم‏.‏

وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله عز وجل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله عز وجل، وقيل‏:‏ اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لهم قلوب لا يفقهون بها‏}‏ يعني‏:‏ لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علماً على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال‏:‏ فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله ‏{‏ولهم أعين لا يبصرون بها‏}‏ يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده ‏{‏ولهم آذان لا يسمعون بها‏}‏ يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني‏:‏ إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه‏.‏

ولما وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر‏:‏

وعوراء الكلام صمت عنها *** وإني إن أشاء بها سميع

فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق‏.‏

ثم ضرب لهم مثلاً فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أولئك كالأنعام‏}‏ يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقَّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع‏.‏

وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئاً ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم أضل‏}‏ يعني‏:‏ بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرق ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعطَ القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالاً من الأنعام‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأنعام مطيعه لله عز وجل والكافر غير مطيع لله عز وجل، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الغافلون‏}‏ يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولله الأسماء الحسنى‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي‏:‏ هو أبو جهل إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية ‏{‏ولله الأسماء الحسنى‏}‏ والحسنى تأنيث الأحسن، ومعنى الآية أن أسماء الله سبحانه وتعالى المقدسة كلها حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن والمعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا لله لأن هذا اللفظ يفيد الحصر‏.‏

وقيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها ولا معنى للحسن في حق الله تبارك وتعالى إلا ذكره بصفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين‏:‏

أحدهما‏:‏ عدم افتقاره إلى غيره‏.‏

الثاني‏:‏ افتقار غيره إليه وإنه هو المسمى بالأسماء الحسنى ‏(‏ق‏)‏‏.‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية «من أحصاها» وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» وفي رواية «من أحصاها» وفي رواية أخرى «لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» قال البخاري‏:‏ احصاها حفظها‏.‏ وفي رواية عن الترمذي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» قال الترمذي‏:‏ حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث قال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث‏.‏ قال ابن الأثير‏:‏ وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال‏:‏ «إن لله تبارك وتعالى تسع وتسعين اسماً» الحديث‏.‏

قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى‏:‏ اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة فالمراد عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر

«أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر العربي المالكي عن بعضهم أن لله ألف اسم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا قليل‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحصاها دخل الجنة» تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها وهو قول أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها‏.‏ وقيل معناه من أطاقها وأحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها دخل الجنة وقيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه وتفكر في مدلولها معتبراً متدبراً ذاكراً راغباً راهباً معظماً لها ولمسماها ومقدساً لذات الله سبحانه وتعالى وأن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه، وقوله والله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في وصف الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له ولا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف والكريم واللطيف من أسماء الله ولا يقال من أسماء الله الرؤوف والكريم واللطيف الله وقد قيل إن لفظة الله هو الاسم الأعظم‏.‏ قال أبو القاسم القشيري‏:‏ فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره وقد قال ‏{‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏}‏ وقال الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع وهو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ولله الأسماء يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال‏.‏ وقال غيره‏:‏ الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ إنما جعل الاسم تنويهاً على المعنى لأن المعنى تحت الاسم والتسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر‏.‏ قال العلماء‏:‏ وكما يجب تنزيه الله عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضاً وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فادعوه بها‏}‏ يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ويجوز أن يقال يا عالم ولا يجوز أن يقال يا عاقل ويجوز أن يقال يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا طبيب وللدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها ويستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه وتعالى ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة ويعترف الله سبحانه وتعالى بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موضع الدعاء وكان له تأثير عظيم ‏{‏وذروا الذين يلحدون في أسمائه‏}‏ معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ الملحد العادل عن الحق المدخل في ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحاداً إذا عدل عنه ومال إلى غيره‏.‏ قال المحققون‏:‏ الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ إطلاق أسماء الله عز وجل على غيره وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فسموا اللات والعزى ومناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ وهو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء الله هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة لأن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو الله بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضرا يا نافع يا خالق الخلق‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن لا يسمي الله العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال الله سبحانه وتعالى ولا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سيجزون ما كانوا يعملون‏}‏ يعني في الآخرة ففيه وعيد وتهديد لمن ألحد في أسماء الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 183‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومما خلقنا أمة‏}‏ يعني جماعة وعصابة ‏{‏يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان‏.‏ قال قتادة‏:‏ بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» ‏{‏ق‏}‏ عن معاوية قال وهو يخطب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم أهل مكة والأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه ‏{‏سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏ قال الأزهري‏:‏ سنأخذهم قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله سبحانه وتعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون وقيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا فيزدادون تمادياً في الغيّ والضلال ويندرجون في الذنوب والمعاصي فيأخذهم الله أخذه واحدة أغفل ما يكونون عليه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها، وقال سفيان الثوري‏:‏ نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر‏.‏

روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏.‏ قال أهل المعاني‏:‏ الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلاً ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا أطواه شيئاً بعد شيء ‏{‏وأملي لهم‏}‏ يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم‏.‏

والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة ‏{‏إن كيدي متين‏}‏ يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء هو القوي الشديد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ معناه إن مكري شديد‏.‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 187‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أولم يتفكروا ما بصاحبهم‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏من جنة‏}‏ يعني من جنون قال قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلاً فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً «يا بني فلان يا بني فلان إني لكم نذير مبين» وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم‏:‏ إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أولم يتفكروا‏}‏ والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في عاقبة الأمر والمعنى أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم يعني محمداً صلى الله عليه وسلم من جِنة والجنة‏.‏ حالة من الجنون وإدخال لفظة من في قوله من جنة يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنهم رأوا أنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله عز وجل وإنذارهم بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى الجنون فبرأه الله سبحانه وتعالى من الجنون فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو‏}‏ يعني ما هو ‏{‏إلا نذير مبين‏}‏ ثم حثَّهم على النظر المؤدي إلى العلم بالوحدانية فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أولم ينظروا‏}‏ يعني نظر اعتبار واستدلال ‏{‏في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء‏}‏ والمقصود التنبيه على أن الدلالة على الوحدانية ووجود الصانع القديم غير مقصورة على ملك السموات والأرض بل كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وبرأه فيه دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى وآثار قدرته كما قال الشاعر‏:‏

«_@_وفي كل شيء له آية _@_ تدل على أنه واحد_@_» ‏{‏وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم‏}‏ والمعنى ولعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار وإذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم ‏{‏فبأي حديث بعده‏}‏ يعني القرآن ‏{‏يؤمنون‏}‏ يعني يصدقون‏.‏ والمعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون وليس بعد محمد نبي ولا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏من يضلل الله فلا هادي له‏}‏ يعني أن إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم فلو هداهم لآمنوا ‏{‏ويذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ يعني ويتركهم في ضلالتهم وتماديهم في الكفر يترددون متحيرين لا يهتدون سبيلاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها‏}‏ قال قتادة‏:‏ قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ قال جبل بن أبي قبشير وشمول بن زيد، وهما من اليهود، لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فإنا نعلم متى الساعة فأنزل الله عز وجل‏:‏ يسألونك عن الساعة يعني عن خبر القيامة‏.‏ سميت ساعة لأنها تقوم في ساعة غفلة وبغتة أو لأن حساب الخلائق ينقضي فيها في ساعة واحدة أيان سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى مرساها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني منتهاها أي متى وقوعها‏.‏ قالوا والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق وأصل الإرساء الثبات يقول رسا يرسو إذا ثبت ‏{‏قل‏}‏ أي قل لهم يا محمد ‏{‏إنما علمها عند ربي‏}‏ أي لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه إلا الله استأثر الله بعلمها فلم يطلع عليه أحد ومر حديث الإيمان والإسلام والإحسان وسؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل‏.‏

قال المحققون‏:‏ وسبب إخفاء علم الساعة ووقت قيامها عن العباد ليكونوا على خوف وحذر منها لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت كانوا على وجل وخوف وإشفاق منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والتوبة وأزجر لهم عن المعصية ‏{‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏}‏ قال مجاهد لا يأتي بها إلا هو، وقال السدي‏:‏ لا يرسلها لوقتها إلا هو والتجلية إظهار الشيء بعد خفائه، والمعنى‏:‏ لا يظهرها لوقتها المعين إلا الله ولا يقدر على ذلك غيره ‏{‏ثقلت في السموات والأرض‏}‏ يعني ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض فكل شيء خفي فهو ثقيل شديد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض وإنما ثقلت عليهم لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على القلوب ‏{‏لا تأتيكم إلا بغتة‏}‏ يعني فجأة على حين غفلة من الخلق ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» اللَّقحة بفتح اللام وكسرها‏:‏ الناقة القريبة العهد بالنتاج‏.‏

قوله‏:‏ يليط حوضه ويروى يلوط حوضه يعني يطينه ويصلحه يقال لاط حوضه يليطه أو يلوطه إذا طينه وأصله من اللصوق‏.‏ الأُكلة‏:‏ بضم الهمزة اللقمة‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك كأنك حفي عنها‏}‏ يعني يسألونك قومك عن الساعة كأنك حفي بها بمعنى بارّ بهم شفيق عليهم فعلى هذا القول فيه تقديم وتأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يقول كأن بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم‏.‏ قال ابن عباس لما سأل الناس محمداً صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم حفي بهم فأوحى الله عز وجل إليه إنما علمها عند استأثر بعلمها فلم يطلع عليها ملكاً ولا رسولاً وقيل معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها ‏{‏قل‏}‏ يعني يا محمد ‏{‏إنما علمها عند الله‏}‏ يعني استأثر الله بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل‏.‏

فإن قلت‏:‏ قوله سبحانه وتعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها وقوله سبحانه وتعالى ثانياً يسألونك كأنك حفي عنها فيه تكرار‏؟‏

قلت‏:‏ ليس في تكرار لأن السؤال الأول سؤال عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني سؤال عن أحوالها من ثقلها وشدائدها فلم يلزم التكرار‏.‏

فإن قلت‏:‏ عبر عن الجواب في السؤال الأول بقوله تعالى‏:‏ علمها عند ربي وعن الجواب في السؤال الثاني بقوله تعالى‏:‏ علمها عند الله فهل من فرق بين الصورتين في الجوابين‏.‏

قلت‏:‏ فيه فرق لطيف وهو أنه لما كان السؤال الأول واقعاً عن قيام وقت الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى علم وقت قيامها عند ربي‏.‏

ولما كان السؤال الثاني واقعاً عن أحوالها وشدائدها وثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه وتعالى عند الله لأنه أعظم الأسماء ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ يعني لا يعملون أن علمها عند الله وأنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه‏.‏

وقيل‏:‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الي من أجله أخفى علم وقت قيامها المغيب عن الخلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 189‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري به فتربح فيه عند الغلاء وبالأرض التي يريد أن تجدب فترحل عنها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل لا أملك‏}‏ أي قل يا محمد لا أملك ولا أقدر لنفسي نفعاً أي اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ولا ضراً يعني ولا أقدر أن أدفع عن نفسي ضراً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة وأترك الجدبة ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ يعني أن أملكه وأقدر عليه ‏{‏ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير‏}‏ يعني ولو كنت أعلم وقت الخصب والجدب لاستكثرتُ من المال ‏{‏وما مسني السوء‏}‏ يعني الضر والفقر والجوع‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ معناه لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً من الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب يريدون وقت الموت لاستكثرت من الخير يعني من العمل الصالح‏.‏ وقيل إن أهل مكة لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة أنزل الله تعالى الآية وهذه الآية ومعناه‏:‏ أنا لا أدعي علم الغيب حتى أخبركم عن وقت قيام الساعة وذلك لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب فذكر أن قدرته قاصرة عن علم الغيب‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد أخبر صلى الله عليه وسلم عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم فكيف الجمع بينه وبين قوله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير‏؟‏

قلت‏:‏ يحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع والأدب والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي‏.‏ ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله عز وجل على الغيب فلما أطلعه الله عز وجل أخبر به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول‏}‏ أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله سبحانه وتعالى عن أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم وقوله وما مسنى السوء يعني الجنون وذلك أنهم نسبوه إلى الجنون وقيل معناه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير واحترزت عن الشر حتى أصير بحيث لا يمسني السوء ويل معناه ولو كنت أعلم الغيب لأعلمتكم بوقت قيام الساعة حتى تؤمنوا وما مسني السوء يعني قولكم لو كنت نبياً لعلمت متى تقوم الساعة ‏{‏إن أنا إلا نذير‏}‏ يعني ما أنا إلا رسول أرسلني الله إليكم أنذركم وأخوفكم عقابه إن لم تؤمنوا ‏{‏وبشير‏}‏ يعني وأبشر بثوابه ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ يعني يصدقون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ يعني آدم عليه السلام ‏{‏وجعل منها زوجها‏}‏ يعني وخلق منها زوجها حواء قد تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم في أول سورة النساء ‏{‏ليسكن إليها‏}‏ يعني ليأنس بها ويأوي ‏{‏فلما تغشاها‏}‏ يعني واقعها وجامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها ‏{‏حملت حملاً خفيفاً‏}‏ يعني النطفة والمني لأن أول ما تحمل النطفة وهي خفيفة عليها ‏{‏فرمت به‏}‏ يعني أنها استمرت بذلك الحمل فقامت وقعدت وهو خفيف عليها ‏{‏فلما أثقلت‏}‏ أي صارت إلى حال الثقل وكبر ذلك الحمل ودنت مدة ولادتها ‏{‏دعوا الله ربهما‏}‏ يعني أن آدم وحواء دعوا الله ربهما ‏{‏لئن آتيتنا صالحاً‏}‏ يعني لئن أعطيتنا بشراً سوياً مثلنا ‏{‏لنكونن من الشاكرين‏}‏ يعني لك على إنعامك علينا‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما هبط آدم وحواء إلى الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصاب حواء فحلمت من ساعتها فلما ثقل الحمل وكبر الولد أتاها إبليس فقال لها‏:‏ ما الذي في بطنك‏؟‏ قالت‏:‏ ما أدري قال‏:‏ إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلباً أو خنزيراً أترين في الأرض إلا بهيمة أو نحوها قالت‏:‏ إني أخاف بعض ذلك قال وما يدريك من أين خرج أمن دبرك أم فن فيك أو يشق بطنك فيقتلك فخافت حواء من ذلك وذكرته لآدم فلم يزالا في غم من ذلك ثم عاد إليها إبليس فقال لها إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت ذلك حواء لآدم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فلما ودلت سمياه عبد الحارث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال‏:‏ إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش‏.‏ عن سمرة بن جندب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة وقال وقد رواه بعضهم ولم يرفعه وقوله وذلك من وحي الشيطان يعني من وسوسته وحديثه كما جاء أنه خدعهما مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما ولد له أول ولد آتاه إبليس فقال إني أنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحارث وكان اسمه في السماء الحارث فقال آدم‏:‏ أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة فأخرجتي من الجنة فلن أطيعك فمات ولده ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر فقال أطعني وإلا مات كما مات أول الأول فعصاه فمات ولده، فقال لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث فلم يزل به حتى سماه عبد الحارث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 190‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أشركاه في طاعته في غير عبادة ولم يشركا بالله ولكن أطاعاه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة‏.‏ وقال عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء وكان لا يعيش لهما ولد فأتاهما الشيطان فقال إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فهو قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما قرئ شركا بكسر الشين مع التنوين ومعناه شركة وقال أبو عبيدة معناه حظاً ونصيباً وقرئ شركاء بضم الشين مع المد جمع شريك يعني إبليس عبر عن الواحد بلفظ الجمع يعني جعلا له شريكاً إذ سميا ولدهما عبد الحارث‏.‏ قال العلماء‏:‏ ولم يكن ذلك شركاً في العبادة ولا أن الحارث رب لهما لأن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد بتسميتهما الولد بعبد الحارث ان الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامته وسلامة أمه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما قال الشاعر‏:‏

وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً *** أخبر عن نفسه أنه عبد الضيف ما أقام عنده مع بقاء الحرية عليه وإنما أراد بالعبودية خدمة الضيف والقيام بواجب حقوقه كما يقوم العبد بواجب حقوق سيده‏.‏ وقد يطلب اسم الرب بغير الألف واللام على غير الله كقول يوسف عليه الصلاة والسلام لعزيز مصر ‏{‏إنه ربي أحسن مثواي‏}‏ أراد به التربية ولم يرد به أنه ربه ومعبوده فكذلك هنا وإنما أخبر عن آدم عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏جعلا له شركاء فيما آتاهما‏}‏ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فعاتبه الله على ذلك لأنه نظر إلى السبب ولم ينظر إلى المسبب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏ قال العلماء‏:‏ وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله فيما آتاهما ثم ابتدأ في الخير عن الكفار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عما يشركون‏}‏ نزه نفسه سبحانه وتعالى عن إشراك المشركين من أهل مكة وغيرهم وهذا على العموم، ولو أراد آدم وحواء لقال سبحانه وتعالى فتعالى الله عما يشركان على التثنية لا على الجمع وقال بعض أهل المعاني‏:‏ ولو أراد به ما سبق في معنى الآية فمستقيم أيضاً من حيث إنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في التسمية فكان الأولى أن يسمياه عبد الله لا عبد الحارث وفي معنى الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم وهو قول الحسن وعكرمة ومعناه وجعل أولادهما له شركاء فحذف ذكر الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء بقوله‏:‏ ‏{‏ثم اتخذتم العجل‏}‏ ‏{‏وإذ قتلتم نفساً‏}‏ فعير به الهيود الذين كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من فعل آبائهم وقال عكرمة‏:‏ خاطب كل واحد من الخلق بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ أي خلق كل واجد من أبيه وجعل منها زوجها أي وجعل من جنسها زوجها آدمية مثله وهذا قول حسن إلا أن القول وورد الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهّودوهم ونصّروهم وقال ابن كيسان‏:‏ هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار ونحو ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 194‏]‏

‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أيشركون‏}‏ قرئ بالتاء على خطاب الكفار، وقرئ بالياء على الغيبة ‏{‏ما لا يخلق شيئاً‏}‏ يعني إبليس والأصنام ‏{‏وهم يخلقون‏}‏ أي وهم مخلوقون‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف وحد يخلق ثم جمع فقال وهم يخلقون‏؟‏

قلت‏:‏ إن لفظة «ما» تقع على الواحد والإثنين والجمع فهي من صيغ الواحدان بحسب ظاهر اللفظ ومحتملة بحسب المعنى فوحد قوله ما لا يخلق رعاية الحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وهم يخلقون رعاية لجانب المعنى‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف جمع بالواو وبالنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس‏؟‏

قلت‏:‏ لما اعتقد عابدو الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع بناء على ما يعقدونه ويتصورنه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يستطيعون لهم نصراً‏}‏ يعني أن الأصنام لا تقدر على نصر من أطاعها وعبدها ولا تضر من عصاها والنصر، المعونة على الأعداء‏.‏ والمعنى أن المعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أنفسهم ينصرون‏}‏ يعني ولا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرها قدر عليه وهي لا تقدر على دفعه عنها‏.‏

ثم خاطب المؤمنين فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن تدعوهم إلى الهدى‏}‏ يعني وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى ‏{‏لا يتبعوكم‏}‏ لأن الله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلون الهداية ‏{‏سواء عليكم أدعوتموهم‏}‏ إلى الدين والهداية ‏{‏أم أنتم صامتون‏}‏ أي ساكتون عن دعائهم فهم في كلا الحالين لا يؤمنون‏.‏ وقيل إن الله سبحانه وتعالى لما بيّن في الآية المقتدمة عجز الأصنام بيّن في هذه الآية أنه لا علم لها بشيء البتة؛ والمعنى أن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع لمن دعاها إلى خير وهدى ثم قوى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون‏}‏ وذلك أن المشركين كانوا إذا وقعوا في شدة وبلاء تضرعوا لأصنامهم فإذا لم تكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا وصمتوا فقيل لهم لا فرق بين دعائكم للأصنام أو سكوتكم عنها فإنها عاجزة في كل حال‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم‏}‏ يعني أن الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون إنما هي مملوكة لله أمثالهم وقيل إنها مسخرة مذللة مثل ما أنتم مسخرون مذللون قال مقاتل في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏عباد أمثالكم‏}‏ أنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة والقول الأول أصح وفيه سؤال وهو أنه وصفها بأنها عباد مع أنها جماد‏.‏

والجواب أن المشركين لما ادعوا أن الأصنام تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا كونها عاقلة فاهمة فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين‏}‏ في كونها آلهة وجواب آخر وهو أن هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين والمعنى أن قصارى هذه الأصنام التي تعبدونها أحياء عاقلة على معقتدكم فهم عباد الله أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلما عبدتموهم وجعلتموهم آلهة وجعلتم أنفسكم لهم عبيداً ثم وصفهم بالعجز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 199‏]‏

‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها‏}‏ يعني أن قدرة الإنسان المخلوق إنما تكون بهذه الجوارح الأربعة فإنها آلات يستعين بها الإنسان في جميع أموره والأصنام ليس لها من هذه الأعضاء والجوارح شيء فهم مفضلون عليها بهذه الأعضاء لأن الرجل الماشية أفضل من الرجل العاجزة عن المشي وكذلك اليد الباطشة أفضل من اليد العاجزة عن البطش والعين الباصرة أفضل من العين العاجزة عن الإدراك والأذن السامعة أفضل من الأذن العاجزة عن السمع فظهر بهذا البيان أن الإنسان أفضل من هذه الأصنام العاجزة بكثير بل لا فضل لها البتة لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإذا كان لا فضل له البتة ولا يضر ولا ينفع فامتنع بهذه الحجة كون الأصنام آلة ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا شركاءكم‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم هذه الأصنام التي تعبدونها حتى يتبين عجزها ‏{‏ثم كيدون‏}‏ يعني أنتم وشركاؤكم وهذا متصل بما قبله في استكمال الحجة عليهم لأنهم لما قرّعوا بعادة من لا يملك ضراً ولا نفعاً قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم قل إن معبودي يملك الضر والنفع فلو اجتهدتم في كيدي لم تصلوا إلى ضري لأن الله يدفع عني، وقال الحسن كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون ‏{‏فلا تنظرون‏}‏ أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم ‏{‏إن وليي الله‏}‏ يعني أن الذي يتولى حفظي وينصرني عليكم هو الله ‏{‏الذي نزل الكتاب‏}‏ يعني القرآن، المعنى كما أيدني بإنزال القرآن علي كذلك يتولى حفظي وينصرني ‏{‏وهو يتولى الصالحين‏}‏ يعني يتولاهم بنصره وحفظه فلا تضرهم عداوة من عاداهم من المشركين وغيرهم ممن أرادهم بسوء أو كادهم بشر‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه وفي هذا مدح للصالحين لأن من تولاه الله يحفظه فلا يضره شيء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون‏}‏ هذه الآية قد تقدم تفسيرها، والفائدة في تكريرها أن الآية الأولى مذكورة على جهة التقريع والتوبيخ وهذه الآية مذكورة على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وهو الله الذي يتولى الصالحين بنصره وحفظه وبين هذه الأصنام وهي ليست كذلك فلا تكون معبودة‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون‏}‏ قال الحسن المراد بهذا المشركون ومعناه وإن تدعواإليها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم لأن آذانهم قد صمّت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون يعني ببصائر قلوبهم وذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية أيضاً واردة في صفات الأصنام لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ العفو‏}‏ العفو هنا الفضل وما جاء بلا كلفة والمعنى‏:‏ اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقصِ عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منه العداوة والبغضاء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار منهم وترك البحث عن الأشياء والعفو التساهل في كل شيء ‏(‏خ‏)‏ عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ ما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف إلا في أخلاق الناس وفي رواية قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس وكذا في جامع الأصول وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس أو كما قال‏:‏ وقال ابن عباس يعني خذ ما عفا لك من أموالهم فما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تتنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه وقال السدي خذ العفو أي الفضل من المال نسختها آية الزكاة، وقال الضحاك‏:‏ خذ ما عفا من أموالهم وهذا قبل أن تفرض الصدقة المفروضة ‏{‏وأمر بالعرف‏}‏ يعني وأمر بكل ما أمرك الله به وهو ما عرفته بالوحي من الله عز وجل وكل ما يعرفه الشارع وقال عطاء وأمر بقوله لا إله إلا الله ‏{‏وأعرض عن الجاهلين‏}‏ أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الجاهلين وهذا قبل ان يؤمر بقتال الكفار فلما أمر بقتالهم صار الأمر بالإعراض عنهم منسوخاً بآية القتال‏:‏ قال بعضهم‏:‏ أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم يريد ينسخ أولها أخذ الفضل من الأموال فنسخ بفرض الزكاة والأمر بالمعروف محكم والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ «ما هذا»‏؟‏ قال لا أدري حتى أسأل‏.‏ ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعت وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ذكره البغوي بغير سند‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه‏.‏

عن عائشة قالت «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح» أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال»

تفسير الآيات رقم ‏[‏200- 201‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنك من الشيطان نزغ‏}‏ قال ابن زيد «لما نزل قوله سبحانه وتعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال النبي صلى الله عليه وسلم» فكيف بالغضب يا رب «فأنزل الله عز وجل‏:‏ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم‏.‏ ونزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب‏.‏ وقيل النزغ الانزعاج وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر والإفساد‏.‏ يقال‏:‏ نزغت بين القوم إذا أفسدت بينهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة والمعنى وإما يصيبنك يا محمد ويعرض لك من الشيطان وسوسة أو نخسة ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ يعني فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك ‏{‏إنه سميع‏}‏ يعني لدعائك ‏{‏عليم‏}‏ بحالك وقيل إن الشيطان يجد مجالاً في حمل الإنسان على ما لا ينبغي في حالة الغضب والغيظ فأمر الله بالالتجاء إليه والتعوذ به في تلك الحالة فهي تجري مجرى العلاج لذلك المرض‏.‏

‏(‏فصل واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية‏)‏

فقالوا لو كان النبي معصوماً لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة والجواب عنه من وجوه، الأول‏:‏ أن معنى الكلام إن حصل في قلبك نزغ من الشيطان فاستعذ بالله وإنه لم يحصل له ذلك البتة فهو كقوله لئن أشركت وهو برئ من الشرك البتة‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله عز وجل عصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن قبولها وثبوتها في قلبه ‏(‏م‏)‏ عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة «قالوا وإياك يا رسول الله قال» وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير «قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم وضمها فمن رفع قال معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال معناه أن القرين أسلم من الإسلام يعني صار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح قال الشيخ وهو المختار لقوله فلا يأمرني إلا بخير‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه أعلمنا أنه معنا لنحترز عنه بحسب الإمكان والله أعلم‏.‏ الوجه الثالث‏:‏ يحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ومعناه وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله فهو كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف‏}‏ وقرئ طيف ‏{‏من الشيطان‏}‏ وهما لغتان ومعناه الشيء يلم بالإنسان وقيل بينهما فرق فالطائف ما يطوف حول الإنسان والطيف الوسوسة‏.‏ وقيل الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللمم والمس‏.‏ قال الأزهري‏:‏ الطيف في كلام العرب الجنون وقيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون‏.‏ وقيل سمي الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمة من الشيطان تشبه لمة الخبال فذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف المذكور في هذه الآية لأن حالة الشيطان مع الأنبياء أضعف من حاله مع غيرهم ‏{‏تذكروا‏}‏ يعني عرفوا ما حصل لهم من سوسة الشيطان وكيده قال سعيد بن جبير هو الرجل يغضب الغضب فيذكر الله فيكظم غيظه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه ‏{‏فإذا هم مبصرون‏}‏ يعني أنهم يبصرون مواضع الخطأ بالتذكر والتفكر‏.‏ وقال السدي‏:‏ إذا زلوا تابوا وقال مقاتل‏:‏ هو الرجل إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر ونزع عنن مخالفة الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏202- 204‏]‏

‏{‏وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏‏}‏

‏{‏وإخوانهم‏}‏ يعني وإخوان الشياطين من المشركين ‏{‏يمدونهم‏}‏ أي يمدهم الشياطين ‏{‏في الغي‏}‏ قال الكلبي لكل كافر أخ من الشياطين يمدونهم أي يطيلون لهم في الإغواء حتى يستمروا عليه وقيل يزيدونهم في الضلالة ‏{‏ثم لا يقصرون‏}‏ يعني لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين لأن المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر والكافر مستمر في ضلالته لا يتذكر ولا يرعوي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئآت ولا الشياطين يمسكون عنه فعلى هذا القول يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا لم تأتهم بآية‏}‏ يعني وإذا لم تأت المشركين يا محمد بآية ومعجزة باهرة ‏{‏قالوا‏}‏ يعني قال المشركون ‏{‏لولا اجتبيتها‏}‏ يعني افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك تقول العرب اجتبت الكلام إذا اختلقته وافتعلته‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها يعني هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك ‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات ‏{‏إنما أتبع ما يوحي إلي من ربي‏}‏ يعني القرآن الذين أنزل عليّ وليس لي أن أقترح الآيات والمعجزات ‏{‏هذا بصائر من ربكم‏}‏ يعني هذا القرآن حجج وبرهان وأصل البصائر من الإبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب ‏{‏وهدى‏}‏ يعني وهو هدى ‏{‏ورحمة‏}‏ يعني وهو رحمة من الله ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ وهنا لطيفة وهي الفرق بين هذه المراتب الثلاث وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد وهم أصحاب عين اليقين ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين ومنهم المسلم والمستسلم وهم عامة المؤمنين وهم أصحاب حق اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته فقال سبحانه وتعالى‏:‏ وإذا قرئ عليكم أيها المؤمنون القرآن فاستمعوا له يعني أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه وأنصتوا يعني عند قراءته والإنصات السكوت للاستماع‏.‏ يقال‏:‏ نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد‏.‏ واختلف العلماء في الحال التي أمر الله عز وجل بالاستماع لقارئ القرآن والإنصات له إذا قرأ لأن قوله فاستمعوا له وأنصتوا أمر‏.‏

وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال‏:‏

القول الأول‏:‏ وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكون والاستماع لقراءة القرآن‏.‏ وقال عبد الله‏:‏ كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان قال فجاء القرآن وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا‏.‏

القول الثالث‏:‏ إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام روى عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار‏.‏

القول الرابع‏:‏ أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء قال مجاهد‏:‏ الإنصات للإمام يوم الجمعة‏.‏ وقال عطاء وجب الصمت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وعند الإمام وهو يخطب‏.‏ وهذا القول قد اختاره جماعة وفيه بعد لأن الآية مكية والخطبة إنما وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة وهو ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت» أخرجاه في الصحيحين واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ‏.‏ يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسرّ الإمام أو جهر‏.‏ يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية قال إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال الآية وارة في غير الفاتحة لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية‏.‏

قالوا وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكاناته ولا ينازعه في القراءة ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روى عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال» أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال «قلنا‏:‏ يا رسول الله أي والله قال» لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها «أخرجه الترمذي بطوله وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب «‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثاً غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك «وذكر الحديث وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ يعني لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمركم به من أوامره ونواهيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واذكر ربك في نفسك‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بالذكر القرآن في الصلاة يريد اقرأ سراً في نفسك والفائدة فيه أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة لأن ذكر النفس أقرب إلى الإخلاص والبعد عن الرياء وقيل المراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة المذكور جل جلاله وإذا كان الذكر باللسان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة لأن فائدة الذكر حضور القلب واستشعاره عظمة المذكور عز وجل ‏{‏تضرعاً‏}‏ يقال ضرع الرجل يضرع ضراعه إذا خضع وذل واستكان لغيره ‏{‏وخيفة ودون الجهر من القول‏}‏ يعني وخوفاً والمعنى تضرع إليّ وخاف عذابي‏.‏ وقال مجاهد وابن جريج‏:‏ أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت في الدعاء وهاهنا لطيفة وهي أن قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏واذكر ربك في نفسك‏}‏ فيه إشعار بقرب العبد من الله عز وجل وهو مقام الرجاء لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام الله عز وجل عليه وإحسانه إليه فعند ذلك يقوى مقام الرجاء ثم أتبعه بقوله تضرعاً وخيفة وهذا مقام الخوف فإذا حصل في قلب العبد داعية الخوف والرجاء قوي إيمانه والمستحب أن يكون الخوف أغلب على العبد في حال صحته وقوته فإذا قارب بالموت ودنا آخر أجله فيستحب أن يغلب رجاؤه على خوفه‏.‏ عن أنس بن مالك «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال» كيف تجدك «‏؟‏ قال أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف «أخرجه الترمذي‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏بالغدو‏}‏ جمع غدوة ‏{‏والآصال‏}‏ جمع أصيل وهي ما بين صلاة العصر إلى المغرب والمعنى اذكر ربك بالبكر والعشيات وإنما خص هذين الوقتين بالذكر لأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يستقبله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ يعني عما يقربك إلى الله عز وجل وقيل إن أعمال العبد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى المغرب فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه بالذكر وقيل‏:‏ لما كانت الصلاة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر مكروهة استحب للعبد أن يذكر الله في هذين الوقتين ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة أو ذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين عند ربك‏}‏ يعني الملائكة المقربين لما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالذكر في حالة التضرع والخوف أخبر أن الملائكة الذين عنده مع علو مرتبتهم وشرفهم وعصمتهم ‏{‏لا يستكبرون عن عبادته‏}‏ وطاعته لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه عز وجل‏:‏ ‏{‏ويسبحونه‏}‏ يعني وينزهونه عن جميع النقائص ويقولون سبحان ربنا ‏{‏وله يسجدون‏}‏ لا لغيره‏.‏

فإن قلت‏:‏ التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته لأنهما من جملة العبادة فكيف أفردهما بالذكر‏؟‏

قلت‏:‏ أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنهم يسبحونه وله يسجدون ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وأعمال القلوب هي تنزيه الله عن كل سوء وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله‏:‏ ويسبحونه‏.‏ وعبر عن أعمال الجوارح بقوله‏:‏ وله يسجدون وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قوله‏:‏ وله يسجدون ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته في غير وقت صلاة» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأرمت بالسجود فأبيت فلي النار» ‏(‏م‏)‏ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلى رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة» والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏